الأمَّة بين التمزُّق ووحدة المصير
على هامش المخاطر الطائفيَّة
أ.د.طه جابر العلواني
لستُ ممن يخدع نفسه، فقد أكون من أكثر الناس معرفة بأنَّ الأمَّة -مفهومًا وفكرة وواقعًا- مغيَّبة عن العقل المسلم وواقع المسلمين، وأنَّ الفُرقة والطائفيَّة والقبليَّة قد أسست لفُرقة هذه الأمَّة ولتمزقها، بحيث لم يعد ينفع تذكيرها بوحدتها وضرورة جمع كلمتها وعقيدتها وإيمانها وإسلامها ولا مصالحها المشتركة ولا علاقات الجوار ولا أي شيء آخر، حتى صار تمزقها إلى درجة التفكك والتفسخ ديدنًا لها وسياسة ثابتة لكثير من كياناتها. ولقد وصلت الفُرقة وعواملها ووصل التفكك والتفسخ والتمزُّق بها إلى المستويات الدنيا، فنالت من الناس والشعوب والأقاليم أيَّما نيل، وربما بلغت حد دفع بعض النّاس للشماتة، فهناك شعوب وقبائل وأقاليم وطوائف تفرح للمصاب إذا وقع بإخوانها وأهلها.
إنَّني كمفكر مراقب، أتابع وأراقب الأحوال العامَّة، يؤرقني ما يصيب أمتي، فأشعر بالكثير من الأسى والأسف وأنا أراها تتردى في حديث الطائفيَّة والعنصريَّة والقبليَّة، والتعصب الذميم، ودركات التعادي والتباغض والتناحر والتكفير وما إليه. وأعلم أنَّ أمتنا المسلمة منذ عصور التوحد والتئام الشمل قد اتسعت اتساعًا لم تشهد الأرض مثله حتى في عصور الديمقراطيَّات الغربيَّة حين فتحت أمريكا أبوابها لأصحاب الكفاءات من كل أنحاء العالم لتمنحهم فرصة خدمتها وتدعيم بنيانها، ولعل ذلك ما جعلها الدولة الأولى في العالم.
لقد كتبت عن الطائفيَّة كثيرًا، وحذّرت من انتشارها، وبيَّنت أنَّها الحارقة المدمرة، لا تدع شيئًا أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وأنَّ على الناس أن يحذروها، وأنَّ على المخلصين لهذه الأمَّة أن يبذلوا قصارى جهودهم لمحاصرتها ومحاولة التخلُّص منها، وعدم الانسياق وراء الدَّاعين لها مهما كان انتماؤهم وانتسابهم القوميّ والقطريّ والمذهبيّ. ولكن من الواضح أنَّ هذه النَّزعات الشيطانيَّة -من طائفيَّة وعرقيَّة وعنصريَّة- أقوى من التزام الناس بالإيمان والإسلام، فيالضياع الأمَّة...! وأذكر أنَّني رفضت المشاركة -بعد إبداء الإدارة الأمريكيَّة رغبتها في مشاركتي- للذين جاؤوا بعد صدام، وحين زار الدكتور الجعفري واشنطن لقيته في حفل إفطار أعده صديق مشترك وجمعني به، وحذَّرته من الانسياق وراء الطائفيَّة، ودعوته إلى تشكيل جبهة مشتركة على غرار ما حدث في ثورة العشرين؛ تضم قيادات شيعيَّة دينيَّة وسنيَّة مماثلة، وقيادات قبليَّة من السنَّة والشيعة، وقيادات سياسيَّة لتشكيل جبهة يمكن أن تقوم بإعادة بناء اللحمة بين مكونات الشعب العراقي، والخروج من حالات الاستقطاب؛ التي كانت يوم اتفقت قيادات شيعيَّة برئاسة السيد مهدي الحكيم، والسيد مرتضى العسكري مع قيادات كرديَّة برئاسة السيد حبيب محمد كريم على ضرورة تحالف الشيعة والكرد للوصول إلى حقوقهما التي أضاعها أو فرّط بها العرب السنَّة، والعمل على إقامة تحالف قوي يتمكن من تفكيك الدولة العراقيَّة وإعادة بنائها مثالثة بين الشيعة والكرد والعرب السنَّة، فكان ذلك أول الوهن، والحجر الأساس للتمزُّق الذي حدث بعد (2003م) -وما يزال العراق يعاني منه، وقد يستمر في المعاناة- وهو ما أدّى إلى ما عُرف بالاحتلال الأمريكيّ ظاهريًّا والاحتلال الفارسيّ باطنًا، وأدّى إلى سائر المصائب التي يعاني منها العراق؛ وفي مقدمتها هلاك الزرع والضرع والعطش الذي يهدد الملايين، وهذا التفكك الذي لا يرى المراقبون أفقًا قريبًا لتوقّفه أو انتهائه.
لقد حدثت أحداث مفجعة في العراق، وقُتل أناس على الُهوِيَّة وعلى الاسم من الشيعة ومن السنَّة، وأُحرقت مساجد وحسينيَّات، وقُتل أئمة مساجد وقرَّاء عزاء، وتعمَّقت الهُوَّة والفجوة بين الجميع، وأصبح العامَّة من الطائفتين لا يطيق أي منهم رؤية الآخر أو التعامل معه أو التعاون وإياه، مما يجعل مستقبل الجميع -إيران والعراق ودول الخليج وسوريا واليمن والمملكة- في خطر عظيم، ففي مواجهة الأخطار الخارجيَّة يعرف البشر كثيرًا من الوسائل والسبل لتجاوزها، أمَّا الأخطار الداخليَّة فهي أقسى وأشد أنواع الأخطار، وهي عذاب للجميع لا يفوقه إلا عذاب النار -والعياذ بالله- والذي تعتبر الفرقة وتدمير وحدة الأمَّة أقصر السبل إليها: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام:65).
لقد بدأنا نسمع عمَّا يُسمَّى بالهلال الشيعيّ، والخطر الداهم على السنَّة في جميع أنحاء العالم -وليس في العراق وحده- وحدثت مشاكل وفتن وصراعات داخليَّة في اليمن، ورُشِّحت اليمن لمثل الحالة التي بلغها العراق أو أشد، وبدأت قلائل البحرين -البلد الصغير الهادئ- وهناك مشكلات تحدث بين الفينة والأخرى في الكويت، ومثلها في المنطقة الشرقيَّة. ومع كل حدث من هذه الأحداث تتزايد عمليَّات الاستقطاب، وتبرز الطائفيَّة السياسيَّة البغيضة باعتبارها أول مستفيد، وتقوم ثورة في سوريا، شعب أُعلن أنَّه يريد أن يتمتع بشيء من الحريَّة، ويتخلص من حكم حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ الذي امتزج بنوع من الطائفيَّة، فهذا الحزب رأيناه في العراق يتجه نحو أشد مناطق السنَّة طائفيَّة، لتصبح كلمة البعث وكأنَّها مرادفة للطائفة السنيَّة، لكنَّ الحزب نفسه بثالوثه المعروف وحدة، وحريَّة، واشتراكيَّة وفلسفته المعلنة التي لا تختلف إلا بالاختلاف الشخصيّ؛ بين شخصيَّة ميشيل عفلق الذي كان مهيمنًا على توجهات البعثيين من تكريت، وزكي الأرسوزي الذي تبنَّى توجهه البعثي القيادات الطائفيَّة المنتمية إلى الطائفة النصيريَّة، ولم يتحقق على أيدي شقيّ الحزب إلا دمار العراق وتمزقه.
وها هي سوريا تدمر على يد الشقّ الثاني من الحزب، ووراء الحزب طائفيَّة سياسيَّة في البلدين، فلِمَ يُزج بالطائفة كلها مع أنَّ النصيريَّة أقليَّة في الشيعة، وعلى نهجها -الشيعيّ- آلاف الملاحظات من المذاهب الشيعيَّة الأخرى؛ خاصَّة مذهب الشيعة الإماميَّة، ومع ذلك فبدلًا من أن تنصر إيران هؤلاء بمنعهم من ظلم شعبهم واضطهاده، وتنصح أمثالهم في العراق وغيره، إذا بها تنحاز إلى النظام دون نظر في القيم الإسلاميَّة من حق وعدل وحقوق إنسان، ومشروعيَّة للمطالبة بالحريَّة والانعتاق، ولم تنظر إلى المبادئ البعثيَّة التي تؤمن بالبعث ربًّا لا شريك له، إضافة إلى الانحرافات الطائفيَّة التي لا تخفى على أي إمام أو قارئ عزاء أو شيعيّ، وكذلك انحاز قائد حزب الله الذي كان يحظى بتأييد واسع بين الشباب المسلم من جميع الطوائف، فإذا به ينحاز دون تحفظ، ويدعو الآخرين إلى الاستسلام للنظام والخضوع له، وهو أمر لم يفعله ولا أسلافه مع النظام العراقيّ الذي لا يختلف في إجرامه واضطهاده للشعب إلاّ في كون نظام البعث السوريّ يضطهد مَنْ ينسبون إلى السنَّة، ونظام البعث الصداميّ التكريتيّ يضطهدون الشيعة إضافةً إلى السنَّة. ألم أقل لكم إنَّ الطائفيَّة والعنصريَّة أصحبت أقوى من الدين، وأقوى من الانتماء إلى الأمَّة. فمتى يمكن أن نعي ونعود إلى صوابنا وإلى رشدنا ومفاهيم كتاب ربنا وهدي نبيِّنا ورسولنا وآل بيته الطيبين وصحابته المؤمنيين؟ ألم أقل لكم إنَّنا قد اتخذنا القرآن مهجورًا، وأنَّ كثيرًا ممن يؤمنون ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون؟ ومع ذلك فإنَّنا لم نفقد الأمل في أن تثوب هذه الأمَّة إلى رشدها يومًا، وتعود إلى كتاب ربها، وهدي نبيِّها -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.