أطفئوا لهيب الطائفية بحِبْر الحكماء لا بدم الأبرياء
محمد بن المختار الشنقيطي
الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.. ومجاز النوم إشارة إلى أن ألغام الفتنة كامنة في ثنايا كل المجتمعات البشرية، حتى التي تسود فيها العافية والانسجام في الوقت الحاضر. وهي ألغام يُلهب البلداء والغوغاء نارها، ويَسحب العقلاء والحكماء فتيلها. فاستحق أولئك اللعنة، واستحق هؤلاء الرحمة. وتدل الفتن الطائفية على خفوت صوت العقل، وضعف الإرادة الحكيمة، والاستسلام للجهل المركب، وسيطرة غرائز الهيمنة والفناء والإفناء.
وللفتن الطائفية منطق وخصائص فكرية، لم أجد من سبر غوْرها وألمَّ بأطرافها مثل صديقي الباحث التونسي حسن بن حسن، الذي لخص سمات الفتنة الطائفية، في اثنتي عشرة سمة. فوصف الفتنة بأنها حالة ليلية “(1) تنعدم فيها الرؤية أو تكاد، (2) وتنغلق فيها منافذ الذات أمام النقد، (3) وتشتغل فيها الآليات الأيديولوجية لتمجيد الذات وشيطنة الآخر… (4) وتنهار فيها الكوابح أمام حرمة الدماء، (5) وتتأجج فيها الذاكرة التكرارية اللانقدية الجريحة، (6) ويصبح الحاضر معها مجالا لتصفية حسابات تاريخية وهمية، (7) وتتحول النظم الفكرية فيها إلى أنساق اعتقادية، (
وتتجه فيها الوضعية التاريخية برمتها إلى أقصى درجات البؤس الفكري: الحد الأقصى من الفاعلية والحد الأدنى من التفكير.” ومن خصائص الفتنة كما كشفها الأستاذ حسن “(9) التعصب: أي الاستثناء المبدئي للقناعة الخاصة من التمحيص والغربلة، (10) وممارسة ديكتاتورية الحقيقة… (11) وضمور سلطة العقل أمام سلطة الموروث، (12) وغلبة الجانب اللاإرادي للهوية على الجانب الإرادي”.
وقد أتيح لي شيء من الاستقراء ليوميات الفتن الطائفية في بغداد خلال العصر العباسي، وهي قلب العالم الإسلامي المحمَّل بكل جراحه، فتوصلتُ إلى ملاحظات أعرض ثلة منها بإيجاز هنا، جنبا إلى جنب مع الخصائص الفكرية للفتنة التي بسطها أخي الأستاذ حسن. فلعل التركيب بين الصورتين الذهنية والتاريخية يعمّق وعينا أكثر بالفتنة وسبل احتوائها.
أولا: يدل تاريخ الفتن الطائفية في بغداد على أن منطق العوام يسود في أوقات الفتنة على حساب منطق العلماء والحكماء. ولا يتوقف الوعاظ الشعبيون المتعصبون عند حدود التحريض باللسان، بل يتحركون أحيانا في عصابات تتجاوز السلطة، وتفرض رؤيتها الدينية المنغلقة بقوة الساعد والسلاح. وتضعف السلطة خلال الفتن ضعفا يحرمها من ضبط الميزان الاجتماعي. وحينما يسود المنطق العامي الأهوج يختل ميزان العدل، حتى إن من يستحق العقوبة لا يُعاقَب بعدل، بل تُهدَر إنسانيته على مذبح الانفعال غير المتقيد بشرع ولا رحمة.
واقرأ هذا المثال: “أُخذ ابن قرايا الرافضي الذي ُينشِد في الأسواق ببغداد، فوجدوا في بيته سب الصحابة، فقُطعت يده ولسانه، ورجمته العامة، فهرب وسبح، فألحوا عليه بالآجرِّ فغرق، فأخرجوه وأحرقوه. ثم وقع القبح على الرافضة، وأحرقت كتبهم، وانقمعوا حتى صاروا في ذلة اليهود” (الذهبي: العبر في خبر من غبر 4/218). ولنا أن نتساءل هنا: ما الذي كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيفعلانه لو أنهما عثرا على كتب في بيت رجل من أهل المدينة تشتمل على سبهما؟! من المؤكد أن حكمهما سيكون منضبطا بحكمة الشرع ورحمته، لا منساقا وراء غريزة الانتقام الهوجاء.
ثانيا: إن الحكمة السياسية –فضلا عن العدل بين الناس- تقتضي أن لا تكون السلطة طرفا في الصراع الفكري، بل تضمن للجميع حق التعبير عن ما يعتقدونه حقا دون إعنات، وتراعي حساسيات المجتمع كله بغض النظر عن المخطئ والمصيب، وتُسكِت الأصوات المستفزة الموقظة للفتنة دون أن تَكبِت حرية التفكير والتعبير، ودون أن تحكم بخطل الآراء أو سدادها.
فأمر الخطأ والصواب في دقائق العقائد أمر نظري محض، يحسمه العلم لا القانون، والفكر لا القوة، بل ليس من اللازم ولا الممكن أحيانا حسم القول فيه، لتعارض الأدلة واختلاف الفهوم. كما أن فهم الناس لدينهم بطرائق مختلفة أمر سائغ في الشرع، وباب واسع من الرحمة لا ينبغي تضييقه. وليس للسلطة أن تتدخل في شيء من ذلك بالإكراه.
وقد أحسن القاضي يحيى بن أكثم إذ نصح الخليفة العباسي المأمون –وكان متشيعا- بالتزام الحياد في قضايا الآراء الاعتقادية والتاريخية حفاظا على السلم الأهلي، ونأيًا بالسلطة عما ليس من شأنها. يقول المؤرخ ابن طيفور: “كان المأمون قد همَّ بلعن معاوية، وأن يكتب بذلك كتابا يُقرأ يوم الدار، وجفل الناس. فأتاه عن ذلك يحيى بن أكثم، وقال يا أمير المؤمنين إن العامة لا تحتمل هذا وسيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير”. وقد “ركن المأمون إلى قوله” كما ينقل المؤرخ نفسه. وقد قال المأمون لأحد خواصه فيما بعد: “قد علمتَ ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضَنا رأى هو أصلح في تدبير المملكة، وأبقى ذكرا في العامة” (ابن طيفور: كتاب بغداد 1/54).
لكن الحكمة الشرعية والسياسية التي أدركها المأمون هنا، لم يستوعبها بعض الخلفاء العباسيين، ومنهم المأمون نفسه في سياقات أخرى. فتخلى هؤلاء عن الحياد في الصراع الفكري، وانخرطوا في الفتنة مع طرف ضد آخر، باسم المذهب الصحيح والاعتقاد السليم، الذي لا يعدو أن يكون –مثل غيره من الفهوم- تفسيرا بشريا ناقصا لحقائق الوحي الكاملة.
فتعصب الخلفاء العباسيون المتأثرون بفكر المعتزلة (المأمون والمعتصم والواثق) ضد الحنابلة في قضية “خلق القرآن”، ووضعوهم في محنة مريرة استمرت تسعة عشر عاما، كان من مظاهرها قتل الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي بيد الواثق قِتلة شنيعة، وسجْن الإمام أحمد وتعذيبه. كما تعصب الخليفة العباسي الراضي –وكان ذا ميول شيعية- ضد الحنابلة أيضا، واتهمهم في بيان عام قرئ عليهم بتهم اعتقادية وعملية فظيعة. ولم يتوقف الراضي عند الاتهام النظري، بل هدد وتوعد، وكتب في بيانه: “وأمير المؤمنين يقسم بالله قسما جهدا إليه يلزم الوفاء به: لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوجِّ طريقتكم ليوسعنَّكم ضربا وتشريدا، وقتلا وتبديدا، وليستعملن السيف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالِّكم” (ابن الأثير: الكامل 4/114).
وعلى الضد من منهج الخليفة الراضي المناوئ للحنابلة، تعصب الخليفة القادر وابنه الخليفة القائم للحنابلة ضد الأشعرية والشيعة والمعتزلة، وكتب القادر بيانا اعتقاديا حنبليا، سماه بعض المؤرخين “الاعتقاد القادري”، رد فيه على هذه الطوائف الثلاث. وكان القادر يكفِّر الشيعة ويكفر من يرفض تكفيرهم. وقد ألقت كل هذه التدخلات بظلال من التعصب المقيت المدعوم من السلطة على حوارات فكرية واعتقادية ثرية، كان من الممكن إدارتها بالتي هي أحسن، لو أدرك أهل السلطة حدود سلطانهم، والتزموا برسالتهم في العدل والإنصاف تجاه جميع رعاياهم.
ثالثا: كان أغلب الصراع الطائفي في بغداد بين الحنابلة والشيعة، ولم يكن صراعا سنيا شيعيا شاملا كالذي نعيشه اليوم. بل إن الصراع الطائفي بين الأشعرية والحنابلة وتكفير بعضهم بعضا كان أشد في بعض الأوقات من الصراع بين الحنابلة والشيعة، وقد بلغت المواجهات بين الجانبين حدَّ منع الصلاة في المساجد أحيانا!!
فابن الجوزي يروي أنه “وقعت بين الحنابلة والأشاعرة فتنة عظيمة حتى تأخر الأشاعرة عن الجُمُعات خوفا من الحنابلة” (ابن الجوزي: المنتظم 8/163). ويزيد ابن كثير: “فقوي جانب الحنابلة [على الأشاعرة] قوة عظيمة بحيث أنه لم يكن لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة والجماعات” (ابن كثير: البداية والنهاية 12/66). وكان الحنابلة قد تعصبوا من قبل ضد شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري، وحاصروه حيا فـ”كان لا يظهر وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه ” (الذهبي: سير أعلام النبلاء 14/272). ثم لما مات منعوا دفنه في المقابر “ولم يؤذَنْ به أحد ودفن في داره” (الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/553). وقد تكررت محنة ابن جرير في العراق لابن تيمية في مصر والشام بعد ذلك، فعانى عنتا واضطهادا على أيدي الأشاعرة المتعصبين، بسبب معتقداته السلفية الحنبلية.
ولم يكن الصراع الطائفي في بغداد شاملا سكان بغداد كلهم، لذلك فإن أغلب المواجهات الطائفية في بغداد –كما يظهر من استقراء وقائعها- كانت بين سكان حي (الكرخ) الذي غالب سكانه شيعة وهو في الجانب الغربي من بغداد العباسية، وحي (باب البصرة) الذي أغلب سكانه حنابلة وهو في الجانب الشرقي منها. وقد امتلأت كتب التاريخ بيوميات الصراع بين الحيَّيْن المتجاورين، بما يذكِّر بأحلك أيام بغداد الدامية عامي 2004 و2005. ومن ذلك:
* مهاجمة المساجد، وقد كان لمسجد براثا الشيعي النصيب الأوفر من هذه الهجمات المتكررة.
* هدم الأضرحة، أو اعتراض زوارها والاشتباك معهم في معارك عنيفة كثيرا ما يسقط فيها قتلى.
* نزوح سكان الجانب الغربي من بغداد إلى الجانب الشرقي أو العكس، هربا من القتل الطائفي الأعمى.
* منع مياه النهر عن أحد الطرفين على يد الطرف الآخر: فقد مُنع “أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال”. (ابن كثير: البداية والنهاية 12/36).
* حرق المتاجر والمساكن بشكل متكرر عطل الحياة العامة وجلب البؤس للسكان.
* وقد بلغ الأمر بسكان الحيين حد بناء أسوار حول الحي احتماء من سكان الحي الآخر.
رابعا: بالنظر إلى هذه الخلفية التاريخية، يمكن القول إن من أسباب القلق الطائفي في منطقة الخليج اليوم، أن إحدى ضفتيْ الخليج يسكنها شيعة والأخرى يسكنها حنابلة، في تكرار لمشهد حي الكرخ وحي باب البصرة المتجاوريْن والمتشاكسيْن على الدوام في بغداد خلال القرن الخامس والسادس الهجريين. ولسوء حظ الخليج، فإن هاتين الطائفتين هما أشد الطوائف الإسلامية تنافرا وجفاء في العلاقة بينهما في تاريخ الإسلام، مما يحمِّل حكماء الطائفتين اليوم مسؤولية تاريخية وأخلاقية عظيمة، لتجاوز الماضي المعتم بينهما، بدل جرِّ الأمة كلها إلى صراعهما المدمر.
ويبدو أن عنصرا جديدا له أثر في توسع الحس الطائفي اليوم. فكل من الفكر السني والشيعي قد شهد في العصر الحديث تحولا جذريا عمَّق الشقاق بينهما. فقد تمت “حنْبَلَة” الفكر الاعتقادي السني كله، فسادت فيه الآحادية النظرية والضيق بالمخالف، وقد كان مسمَّى “مذهب أهل السنة والجماعة” في الماضي مظلة عريضة وتركيبا من عدة مذاهب ورؤى عقدية وفقهية اتسعت لأغلب المسلمين.
وفي المقابل تمت “أسْمَعَلة” الفكر السياسي الشيعي كله في العصر الحديث، فأصبح الشيعة الإمامية نشطين سياسيا على غرار الشيعة الإسماعيلية في الماضي الذي أسسوا فيه دولا منها الدولة الفاطمية، بينما كانت فكرة الغيبة والانتظار تهيمن على الفكر الإمامي في الماضي، وتحكم على الشيعة الإمامية بالسلبية السياسية. فطغيان الآحادية السلفية على الفكر السني، ودخول الحركية السياسية في نسيج الفكر الشيعي الإمامي من أهم أسباب الفتن المفجعة التي نعيشها اليوم.
وأخيرا فإن الفتنة الطائفية ليست حتمية كونية، بل هي نتيجة من نتائج عجزنا الفكري والسياسي عن بناء فضاء مفتوح قابل بالتعددية الدينية والمذهبية التي أرسى الإسلام دعائمها، وتوصلت إليها أغلب المجتمعات البشرية.. وأول ما نحتاجه هو استرداد العقل لوظيفته في الحياة، والتوقف عن استنزاف الذات. وإذا كان أبو حامد الغزالي كتب عن (فضائح الباطنية) في وقت فقدت الأمة فيه توازنها بسبب الفكر الباطني الذي نخر جسدها، فإننا اليوم بحاجة إلى كشف (فضائح الطائفية) التي تلتهم نسيج مجتمعاتنا وتمزقها كل ممزَّق، و(فضائح الظاهرية) السطحية المصابة بـ”سوء هضم عقلي” في تفسير الدين ورؤية التاريخ.