حُمَّى الإساءة إلى الإسلام ولُعبة الثَّور الإسباني
كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه “الصراع الفكري في البلاد المُستَعمَرة” أن خبراء الإعلام والحرب النفسية في الغرب يلعبون بالجماهير المسلمة لعبة الثور الإسباني. فاللاعب الإسباني يلوّح بالقماشة الحمراء في وجه الثور، فتثور ثائرة الثور، ويبدأ في مهاجمة القماشة دون أن ينال منها، حتى تخور قواه ويسقط على الأرض. وفي الكتاب ذاته يقول مالك بن نبي إن أولئك الخبراء يطبّقون على المسلمين نظرية “الاستجابة الشرطية” التي صاغها عالم النفس الروسي إيفان بافلوف، وخلاصتها وضع الإنسان في ظروف تجعل ردوده آليةً.
فهيمنة العواطف على تفكير المسلمين اليوم، تجعل من السهل التنبؤ بنوع ردودهم على هذا الاستفزاز أو ذاك، لأنها لا تنبع في الغالب من تفكير عميق أو تخطيط مُسبق. كما تجعل من اليسير إشغالهم عن العمل المنهجي، واستنزافهم في انفعالات غاضبة تفور فجأة، ثم تذبل وتتلاشى دون أن تخدم لهم هدفا أو تحقق لهم غايةً. فحينما يكون صحفي مغمور، أو مخرج فاشلٌ، أو رسَّام لا مواهب له، قادرا على تحريك ملايين المسلمين، وتقرير موضوع خطبهم للجُمُعات القادمة، وشكل تحركهم السياسي في الشهور القادمة.. فذلك دليل دامغ على غلبة الانفعال على الفعل في مجتمعاتنا.
والمتتبع للإساءات الغربية المتكررة للإسلام، منذ آيات سلمان رشدي الشيطانية، إلى الرسوم الدانماركية القذرة، إلى الفيلم التافه الذي صدر مؤخرا بالولايات المتحدة.. يدرك دقة مالك بن نبي في تشخيصه، كما يدرك أن خبراء الإعلام والحرب النفسية لن يَعدموا مثيرا آخر يستفزون به العواطف الإسلامية الجامحة، في عملية استنزاف أبدية.
والذي يتأمل السياق الذي ظهرت فيه الاستفزازات الثلاثة -الآيات الشيطانية، والرسوم الدانماركية، والفيلم الإسرائيلي الأميركي- يدرك أن من أخرجوها صاغوها بعناية، لإحداث أقوى درجات الإثارة والاستنزاف، وزرْع أعمق العداوات بين الإسلام والمسيحية، وبين العالم العربي والغرب.
1. فسلمان رشدي كان يدرك جيدا الرد الآتي، ويسعى إلى استثارته عن سابق عمد وإصرار، فهو لم يكن بدافع الإبداع الفني، بل بدافع الإثارة السياسية. وقد نقل الدكتور عبد الوهاب الأفندي عن المفكر الراحل أدوارد سعيد قوله: “لقد كنت مدعوا على الغداء في منزل [سلمان] رشدي في لندن قبل صدور تلك الرواية [الآيات الشيطانية]. وبعد الغداء أخذَني إلى مكتبه وأخرج من أحد الأدراج مخطوطا وأراني إياه قائلاً: إن هذا سيُغضب المسلمين كثيرا”.
2. واختيار الدانمارك لإخراج الرسوم -وهي الدولة الأوروبية التي يحمل علُمُها رمزَ الصليب- لم يكن محض مصادفة في اعتقادي، بل كانت غايتُه أن تظهر الجماهير المسلمة على شاشات التلفزيون وهي تحرق رمز الديانة المسيحية في كل أرجاء العالم، تعميقا للشرخ بين الإسلام والمسيحية، وتهييجا للجماهير الأوروبية ضد المسلمين المهاجرين، وتوسيعا لجبهة الحرب الدائرة اليوم بين الإسلام وأعدائه ليكون الغرب كله، بل كل مسيحيي العالم جزءا من تلك الحرب، بدلا من توجيه الجهد ضد أهل العدوان حصرا، كما يوجبه القرآن الكريم، ويقتضيه المنطق العملي السليم.
3. أما الفيلم الأخير فلا يمكن فصله عن قلق الإسرائيليين مما تدعوه مراكز البحث عندهم “تغيّر المناخ الإستراتيجي” في المحيط العربي، وأسفِهم العميق على ما فتحه الربيع العربي من آفاق مصالحة تاريخية بين الغرب والشعوب العربية. فلم يُرعب رعاة المشروع الصهيوني في الأعوام الأخيرة أكثرُ من تحرر إرادة الشعوب العربية من نير الطغاة، ورؤيتهم الغربَ -الذي ظل عقودا يحمي عروش الاستبداد- وهو يقاتل ضد الهالك القذافي في ليبيا، ويضغط على الجزار بشار، ويسلِّم بسقوط أقرب الطغاة إليه، من أمثال حسني مبارك، الذي عدَّه الإسرائيليون كنزا إستراتيجيا لا يُقدَّر بثمن.
ولا ننسى كذلك -ونحن نتتبع دلالة السياق الزماني والمكاني لهذه الإساءات المتكررة- أن هذا الفيلم الرديء خرج إلى الوجود منذ حوالي عام تقريبا، لكن الترويج الإعلامي له تأخر كثيرا، ليتزامن مع ذكرى هجمات 11 سبتمبر، ومع زيارة البابا للمشرق العربي.
إن الاستفزاز الحالي ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من استفزازاتٍ سابقة، وأخرى آتيةٍ قد تكون أشد إيلاما وأعمق أثرا، خصوصا إذا أعان المسلمون هذه الاستفزازات على النجاح بردود انفعالية مغالية، تروّج لها أكثر مما تكبِتها. فحريٌّ بالمسلمين اليوم أن يدركوا أن الاستئسار للحروب الاستنزافية والمعارك الجانبية لا ينصر رسولا ولا رسالة، بل هو تنفيذ لخطط الأعداء بحسن نية وبلاهة. فمنذ نشر سفاهات سلمان رشدي في الثمانينيات، ونحن نخضع لنفس المثيرات، ونردُّ بنفس الردود. وتكفي ثلاثة عقود لتطوير منهج جديد في التفكير والعمل يخدم أمّتنا وعقيدتنا.
وفيما يلي بضع ملاحظات أرجو أن تدفع آخرين إلى التأمل بشكل أعمق في هذا المضمار:
أولا: أتمنى أن يسأل كل منا نفسه: ماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فاعلا في هذه الحالة؟ ثم نفكّر مليًّا في الإجابة قبل تبنِّي أي رد قد يتحول موبقةً شرعيةً وكارثةً سياسيةً، مثل قتل السفراء الذين يحرِّم الإسلام وتمنع مكارمُ العرب قتلهم، أو حرق الممتلكات العامة والخاصة، أو ضعضعة السِّلم الأهلي في لحظات تحوُّلٍ حرجة.
لقد أسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته مرارًا، وتعرَّض للسب والبهتان تكرارًا، فكان دائم العفو مُعْرضا عن الجاهلين، كما كان دائم النظر في العواقب، مراعيا للمآلات والمصائر. كل ذلك انسجاما مع التوجيه القرآني: “خُذ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُُرْفِ وأَعْرِضْْ عَن الْجَاهِلِينَ”. وفي هذا السياق يَحُسن رفعُ لبس شائع لدى بعض المسلمين، وهو تأويلهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف وأمثاله ممن كانوا يتآمرون لقتله، ويخططون لحربه، ويعبئون لها بالدعاية شعرا ونثرا، على أنه أمرٌ بقتل كل من أساء إساءة لفظية لشخص النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الفهم الخاطئ يتجاهل عشرات الحالات من الإساءات التي تعرَّض لها النبي صلى الله عليه وسلم على ألسنة المشركين والمنافقين واليهود، بل على ألسنة بعض جهَلة الأعراب من المسلمين، ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم.. ولم يكن رده عليها سوى الصبر الجميل والصفح الكريم.
ثانيا: إن المنطقة العربية تمرُّ بمرحلة في غاية الحرج، هي فيها أحوجُ ما تكون إلى المصالحة مع الذات ومع العالم.. وأقلُّ ما تحتاجه منطقتنا أن يتفهَّم العالم حاجةَ شعوبنا إلى الديمقراطية ونبلَ جهادها من أجل الحرية، وأن تدعم دول العالم المؤثِّرة شعوبَنا ضد الطغاة. والدول الغربية التي تملك أكبر النفوذ في منطقتنا وفي العالم هي أول من نحتاج المصالحة معها في هذه الظروف، إذا أردنا إيصال الربيع العربي إلى ثمراته الطيبة بأقل كلفة من الدماء والأموال.
ويقتضي منطقُ المصالحة أن لا ندَع أصوات الاستفزاز وزراعة الفتنة تعبث بالعلاقات بين شعوبنا وبين الشعوب الغربية، وهي علاقات نقلها الربيع العربي لأول مرة في العصر الحديث من مرحلة التبعية إلى مرحلة النِّدِّية. والأهم من ذلك أن لا نعبث بالعلاقات بين المسلمين والمسيحيين داخل المجتمعات العربية.
فهل يدرك المحتجون ما الذي يعنيه هجومُهم على السفارات الأميركية والأوروبية من تجييشٍ للرأي العام الغربي ضد الثورات العربية؟ وهل يفهمون ما يترتب على ذلك من تعويق انتصار الثورة السورية التي تخوض ملحمة مجيدة تتوقف عليها مصائر المنطقة؟
وهل يدرون ما يترتب على أفعالهم من التشويش على الانتقال من دولة الاستبداد والفساد إلى دولة العدل والحرية في ليبيا وتونس ومصر واليمن؟!
ثالثا: إن العمل المنهجي الدائم، المدرك لغاياته، المنتقي لآلياته، هو ما نحتاجه اليوم، لا الفورات الانفعالية العابرة التي تُفسد أكثر مما تصلح، وتضرّ أكثر مما تنفع.. وقد آن الأوان للتفكير في إستراتيجية للتعامل مع الإساءة إلى الإسلام، تتأسس على الفعل المنهجي، لا على الانفعال العاطفي.
وبالتفكير المنهجي سنجد أن أحسن رد على هذه الاستفزازات الفجَّة هو تجاهلُها، وأن الرد الصاخب عليها ترويجٌ مجاني لها، وإساءة إلى الذات قبل الغير. وقد أدرك علماء الإسلام منذ قرون خلت حكمة التجاهل للمستفِزّ الساعي إلى الدعاية الفجَّة، فقد ورد في مقدمة صحيح الإمام مسلم أن “الإعراض عن القول المطروح أحْرَى لإماتته وإخمال ذِكْر قائله، وأجدرُ ألا يكون ذلك تنبيهًا للجُهَّال عليه”.
لقد حقّقنا لمخرج الفيلم الحقير بغيته من الشهرة، وحققنا لمموِّليه بغيتهم من التشهير بأنفسنا، ورفْع الأسوار بيننا وبين بقية البشرية، ثم أزهقنا أرواح إخواننا في اليمن والسودان وتونس ومصر، وأرواح ضيوفنا من الدبلوماسيين في ليبيا، ودمرنا أملاك مواطنينا المساكين وسياراتهم، وشوهنا سمعة ديننا ومجتمعاتنا، وشوشْنا على مستقبل ثوراتنا وسعيِنا إلى الحرية.. فأي نصرة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذه التي يكون هذا حصادها؟! من المفهوم أن يسيء إلينا عدوٌّ مجاهر بالعداوة، أما ما ليس مفهوما فهو أن نسيء إلى أنفسنا في ردودنا عليه.
ثمة طرائق مثمرة للرد على هذا الفيلم الرديء، منها تجاهله تماما فلا يُلقِي له أحد بالا، فيموتُ منتجوه وممولوه غيظًا، وتموت الفكرة الرديئة التي يحملها، كما كان علماؤنا يميتون البدعة بالسكوت عنها. ومنها الملاحقة القانونية الهادئة لمنتجه ومموليه، يقوم بها مواطنون عرب ومسلمون في الولايات المتحدة، أو تتولاها منظمة التعاون الإسلامي. وأقل ما في هذا المنحى -إن لم يكسب القضية قانونيا- أن يستنزف المستفزِّين في وقتهم ومالهم، ويردع غيرهم عن سلوك ذلك الطريق الباهظ التكاليف.
حينما قرر تيري جونز حرق المصحف الشريف، قرّر مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) الرد بتوزيع مليون نسخة من ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة، بدلا من الانشغال بالشد والجذب مع متعصب أهبلَ يبحث عن الشهرة بالتشهير. فانْحُوا ذلك النحوَ أيها العقلاء.
إن الإسلاميين الذين حملهم الربيع العربي إلى السلطة والتصدر يتحملون المسؤولية الكبرى في قيادة جماهير أمتنا إلى الفعل المنهجي، بدلا من اتباعها في غرائزها الانفعالية. فإذا كانت الديماغوجية والمزايدة السياسية مفهومةً ممن يعارض السلطة ويناكفها، فليستا مقبولتين ممن يتحمل المسؤولية، ويتصدر لصناعة القرار وبناء المستقبل. إن خبراء الإعلام والحرب النفسية لن يَعدموا مثيرًا يستثيرون به العواطف الإسلامية الجامحة في حرب استنزاف أبدية. فهل نظل خاضعين لمَنْطِقهم، أم نسيرُ حسب مَنطِقنا؟!